و عظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس و مصافاة من يضاغنونه و أبانت لي أن الحب ليس بميزة
في المحب بل في المحبوب. و قبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطاً دقيقاً مشدوداً بين وتدين متقاربين, أما الآن
فقد تحول إلى هاله أولها آخرها و آخرها أولها تحيط بكل كائن و تتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون
*****
و عظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون و البشرة, و أن أحدق متبصراً بما
يعده الناس شناعه حتى يبدو لي حسناً. و قبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة
بين أعمدة من الدخان و اضمحل فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
*****
و عظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة و لا تضج بها الحناجر. و قبل
أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها, لا أعي سوى الجلبة و الصياح أما من الآن فقد صرت
أتوجس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور, مرتلة تسابيح الفضاء, معلنة أسرار الغيب
*****
وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس لا ترفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه.
و قبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أخمدها بعبة من الغدير أو برشفة
من جرن المعصرة . أما الآن فقد صار شوقي كأسي, وغلتي شرابي, ووحدتي نشوتي. وأنا لا ولن أرتوي
و لكن في هذا الحرقة التي لا تنطفيء مسرة لا تزول.
*****
_ جبران خليل جبران _
لا يوجد حالياً أي تعليق