الحديث عن تطوّر اللغة لدى الطفل يعني الحديث عن موضوع بالغ التعقيد ، فاللغة لا تنشأ تلقائية ، بل هي نتيجة تفاعل منبهات تصدر عن البيئة نفسها ، فمنذ الأيّام الأولى من حياة الطفل يمكن أن تؤثّر البيئة إيجاباً أو سلباً في تطوّر اللغة لديه ، والأطفال يتعلمون الكلام عن طريق التقليد ، ولذلك فإنّ طريقة كلامهم ـ وكذلك الفترة الزمنية التي يتطلبها تطوّر لغتهم ـ تعتمد على فرص التقليد التي نتيحها لهم . وبالمقابل : فكلما أسمعت الطفل مزيداً من الاصوات أتاحت أمامه الفرصة للتقليد . ولهذا السبب ، فالمساعدة المستمرّة التي يقدمها الأبوان إلى الطفل ، وتلك التي يقدمها إليه أيضاً أولئك المحيطون به ، تعدّ جوهريّة .
هذا ومن الأهميّة بمكان ، قبل كل شيء ، أن يكون الصوت الذي يسمعه الطفل رقيقاً ينضج بالحنان ، بطيئاً مفصول المقاطع . ولا بأس كذلك في توكيد حركات الفم في أثناء الكلام إن أمكن ذلك ، ولربما كان أكثر الأوقات إفادة للطفل في تعريفه بالكلام على هذا النحو ، هي الأوقات التي تحضن فيها الأمّ طفلها بين ذراعيها . أو في أثناء إرضاعه أو إلباسه .
والحقّ أن الشهور الستة الأولى من حياة الطفل تؤثّر فيه تأثيراً بالغاً ، إذ يكون الطفل خلال هذه الفترة في أوج تجاربه الكلاميّة ، وإن كان نطقه يقتصر على إخراج أصوات لا معنى لها . وبعد ذلك ـ أعني عندما يبلغ الطفل السنة من العمر تقريباً ـ تبرز مكتسباته اللغويّة الأولى التي ترتبط بنموّه الجسمي والعقلي . فالتطور الجسمي يكسب الطفل قدرة جديدة على نطق الأصوات . وفي الشهر الرابع تقريباً يبدأ الطفل بتأتأة مقاطع من الكلمة ، ويستمر في التأتأة حتى الشهر السابع أو الثامن .
هذا وإن انتقال الطفل من التغذي بالحليب إلى التغذّي بالأطعمة الصلبة أو شبه الصلبة يؤثّر من دون شكّ في نموّه هذا ، ويتمكن بفضل الحركات المختلفة التي يحدثها بفمه وشفتيه ولسانه وحنكه ، من السيطرة على فمه سيطرةً أكبر ، وإن كان قبل ذلك لا يستخدم فمه إلاّ من أجل الرضاعة .
ومن الطبيعي أنّ التأتأةتختلف اختلافاً شاسعاً عن الكلام ، بسبب المضمون الفكري للكلام ، بيد أنها خطوة كبيرة نحو الكلام . وفي التأتأة يجمع الطفل أكثر من مقطع واحد مكرّر وفي العادة يجمع الطفل في التأتأة بين حروف ساكنة وحروف لينة ، ويستخدم الحرف آ بصورة أولية . وفي الشهور التي تعقب ذلك يزداد نموّ الطفل العصبي والعضلي ، فيساعده ذلك في السيطرة على تطوّر اللغة . وما إن يبلغ السنة من عمره حتى يسيطر بشكل أدقّ على أعضاء الصوت ، فيتمكن إذ ذاك من إخراج الأصوات كافة تقريباً ، تلك الأصوات التي يقدر الراشد على إخراجها بصورة منتظمة ، وبذلك يكتسب الطفل احتياطيّاً من المقاطع يكفي لتمكينه من النطق بكلماته الأولى .
وهذا التطوّر الجسمي للطفل ينبغي أن يقترن بتطوّره العقلي . فالعبارة التي ينطقها الطفل ، وإن لم تكن تشكّل جزءاً من اللغة ، إلاّ أنها تؤديّ وظيفة شكل من أشكال الاتصال ، فتلفت إنتباه الأبوين إلى الطفل ، وكذلك انتباه من يحيطون به . وفي هذه المرحلة المبكرة من الكلام يشير الطفل بوجهه إشارات متشابهة للاشارات التي يحدثها في أثناء بكائه . وفي معظم الحالات ينطق الطفل بأصوات عندما يكون وحيداً أو عندما يكون على وشك الاستسلام إلى النوم . وتتميّز هذه الأصوات بطابع غنائي وهي تمثّل طلباً من جانب الطفل أو دعوة لمجالسته ومؤانسته .
ولكي ينتقل الطفل إلى مرحلة الكلام الحقيقي ينبغي له أن شعر بأنّ صوته قادر على التفاعل مع الواقع المحيط به . ومن الطبيعي أن هذه أصعب خطوة بالنسبة إلى الطفل . فلكي يتمكن الطفل من الاتصال اللفظي ، لابدّ أن يحسّ بقوّة ألفاظه وبالامكانات الفائقة التي تمكن في صوته . ومن الطرق القليلة التي يمكن بواسطتها مساعدة الطفل على هذا النموّ الطبيعي : المشاركة المستمرّة من جانب أولئك المحيطين به ، إذ يجب حمل الطفل دائماً على الربط بين الأصوات والأشياء . ولا بأس كذلك في إبداء علائم الاستحسان والتحبيذ لكل محاولة لفظ من جانب الطفل . ومن المستحسن أن تكون أمّه قدوة له في مجال تقليد اللفظ . فبهذه القواعد الرئيسية تضمن الأم تكلم الطفل خلال مدّة قصيرة . وإنّ الكلمات الأولى والتي تحمل معنى حقيقياً يجب أن يتوصل الطفل إلى النطق بها في حوالي الشهر الثاني عشر .
ومن البديهي أنّ التأخر في نموّ الطفل ، وما ينجم عنه من مظاهر مبكّرة ، يجب ألاّ يحمل الأم على الخوف أو القلق مادام الطفل ماضياً في التعلّم ، ذلك أنّ لكلّ طفل ردّ فعل معيّناً نحو منبهات البيئة التي يعيش فيها . والطفل يبدأ بالكلام عندما يبلغ السنة الواحدة من العمر تقريباً . ومن الطبيعي أن تكون مفرداته محدودة العدد ، ولكنها غنيّة بمجموعة كبيرة من المعاني التي يربطها بكلّ كلمة . فمن المعلوم أنّ الكلمات التي يستعملها الطفل قد تدل على عبارة كاملة ، أو على طلب ، أو على رغبة أو حالة عاطفيّة . فكلمة « بابا » . على سبيل المثال تربط ـ بالنسبة للطفل ـ بين جميع الاشياء التي يتذكرها حول أبيه ، أو تربط في بادئ الأمر بين جميع أشكال الرجال المألوفة لديه .
ومن جهة ثانية ربّما بدأ الطفل في السنة الأولى من العمر بالكلام وحده ، فذلك أمر لا يحمل على الخوف والقلق لأنه طبيعي ، وهو العمل المهم الأوّل في مجال تفكيره الذي يرافق الكلمات التي ينطقها والإشارات التي يستعملها والحقيقة أنّ تعلّم الكلام من جانب الطفل يميّز نهاية عملية طويلة من نموّه ، إذ يبدأ بعد ذلك في إظهار نضجه وتقدّمه عن طريق الصوت والكلمات . ويميل عدد كبير من الأمهات إلى الظنّ بأنّ التحدث إلى الطفل أمر لا جدوى منه ، لأنهن لا يقدرن على فهم معنى الكلمات التي ينطقها . وهذا رأي ينطوي على خطأ بالغ ، فالطابع الموسيقي الذي يتسم به الصوت البشري هو الذي يمكن الطفل من بناء مفرداته . وينبغي تشجيع الطفل وإرشاده في إخراج أصوات معيّنة . ولنلق الآن نظرة على مراحل التعليم كافة ، والتي يستطيع الآباء تنفيذها : فقبل كل شيء ينبغي للأبوين أن يتذرّعا بالصبر ويحاولا الابتسام في وجه طفلهما قدر المستطاع ، ولا بأس في إخراجها وتكرارها على مسامعه . وربما كان مستحسناً دمج بعض المقاطع ، بعضها ببعض . وليس من الضروري أن تؤدّي الكلمات الأولى معنى لدى الطفل ، بل المهم مساعدة الطفل في تنسيق الاصوات ، وغرس مفهوم تقليد الكبار في ذهنه ، وهو أمر جوهري فيما يتعلّق بتعلّم اللغة وبالاشكال الأخرى من النمو الجسمي والفكري .
تلك هي الخطوات الأولى التي تمكن الطفل من النطق . أمّا الخطوات الثانية فهي أكثر صعوبة . ففي هذه المرحلة ينبغي تعليم الطفل أن هناك أصواتاً معيّنة لها دلالتها ، ويستطيع باستعمالها أن يحصل على شيء معيّن . والحقّ أنّ التحدث مع الطفل بصورة متكرّرة يجعله مدركاً لرموز اللغة والكلام ، كما أنّ الربط المتكرّر للكلمات بالأشياء والوجوه المألوفة والمشاعر ، كالشعور بالجوع والعطش ، سرعان ما يمنح الطفل بعض الثقة والسهولة في النطق .
ويجب ألاّ تملّ الأم من تعليم طفلها إذ أن أحسن طريقة لتمكين الطفل من اللغة تكمن في تكرار الكلمات والمفاهيم ، فإعادة ربط الكلمات بالحقائق . كفيلة بأن تجعل الطفل قادراً على تنظيم ركام عديم المعنى من الأصوات وتحويله إلى مفردات تنبض بالحياة والمعاني .
ومن جهة ثانية على الآباء ألاّ يصرّوا على أن ينطق أطفالهم الكلام ويستعملوه استعمالاً صحيحاً ، بل يكفي أن يكون الطفل قادراً على التعبير عن حاجاته ومزاجه بصوته ، إذ لا يزال الوقت متسعاً لبلوغ الكمال بعد ذلك . فإذا كان الطفل جائعاً ينبغي عدم انتظاره حتى يتمكن من نطق الكلمة الدالّة على الجوع بصورة صحيحة من أجل إعطائه شيئاً من الطعام ، بل تجب الاستجابة إلى جهوده التي يبذلها في التعبير مهما كان نصيب هذه الجهود من النجاح . فهذه الاستجابات تسهم في جعله يفهم القيمة العملية للكلام ، وسوف يهتم هو نفسه باستكمال مفرداته والاستمرار في ذلك . ومع الزمن ينبغي مكافأة الطفل على محاولاته هذه التي يبذلها في الكلام ، وذلك بإجابته إلى بعض من طلباته . فلا ينبغي مثلاً إعطاء الطفل قطعة من الحلوى ، أو حضنة ، لقاء كلمة ينطق بها ، بل يجب تقديم جواب عملي عن كل سؤال يلقيه . والحقيقة أن طرق الاستحسان هذه تسهم حتماً في تطوير لغة الطفل أكثر من المكافآت الاصطناعية التي لا تمتّ بصلة إلى السؤال الحقيقي الذي طرحه الطفل .
هذا ، ومن أوّل المفاهيم الخاطئة السائدة بين الأسر : مفهوم معادلة ذكاء الطفل بقدرته المبكرة على الكلام فهذا المفهوم لا أساس له من الصحّة اطلاقاً . وانطلاقاً من هذا المفهوم الخاطئ يلجأ الآباء إلى كل وسيلة ممكنة لحمل أطفالهم على الكلام بسرعة وبشكل مبكر . والحقّ أنّ قلق الآباء ـ فضلاً عن الكبت وخيبة الأمل التي تنجم عنه ـ يؤثّر في الطفل تأثيراً سلبياً فيشعر الطفل إذ ذاك بأنه ملزم بالتكلم والتعبير عما في نفسه بطريقة بالغة الصعوبة بالنسبة إليه .
وفضلاً عن ذلك ، ينبغي ألأّ نحاول إجبار الطفل على النطق بمقاطع أو كلمات لم يصبح قادراً بعد على النطق بها ، فالضغط المستمر على الطفل الذي لم يصبح قادراً بعد على النطق بالكلام قد يسبب له عائقاً لفظياً يدوم فترات متفاوتة من الزمن . ولكن عندما يشرع الطفل في التلفظ بكلمات ومقاطع بصورة تلقائية ، فإنه يستحسن عندئذ تشجيعه على ذلك باقتراح مقاطع وكلمات أخرى عليه ، أو بإعادة المقاطع نفسها كما ذكرنا .
ومما ينبغي تفاديه كذلك عدم إجبار الطفل الذي بلغ من العمر عشرة شهور أو اثني عشر شهراً على إنشاء علاقات منطقيّة بمفرداته الهزيلة . وأخيراً فإنّ عمليّة تعلّم الطفل للغة تسير وفق مسار طبيعي لاينبغي إعاقته ، ولا التعجيل به ، ولا اصطناع إثارته سواء كانت هذه الإثارة بصورة مفرطة أو من دون إفراط . تلك هي بعض الخطوط الأساسية المرشدة التي تساعد الطفل على التعبير اللفظي البسيط والقويم بدء من السنة الأولى من عمره
لا يوجد حالياً أي تعليق